بقلم / د. عبد الله حامد إدريس
لا شك ان الحرب التي اشعلها المتمرد محمد حمدان دقلوا حميدتي ومليشيا الدعم السريع في الخرطوم ثم توجهت بها مليشياته لمساحات واسعة من الولايات بدأٔ بالجزيرة ثم ولايات دارفور وكردفان وسنار واطراف من النيل الابيض والنيل الأزرق ، لا شك انها خلفت مآسى ومواجع لم تشهدها حروب المعمورة في حاضرها القريب ، ولاشك ان قادة الجنجويد الذين تولوا القيادات الميدانية قد حازوا على اكبر نصيب من استهجان وكره السودانيين ، لأن الأضرار التي صوبوها كانت ضد السودان كدولة وضد الشعب فردأ فردأ ، عكس آخر حروب عاشها السودانيون وهما حرب جون قرنق وياسر عرمان والاحزاب اليسارية في الجنوب ، وحرب حركات دارفور الأميبية بمتمرديهم وقياداتهم المتعددة التي ينعم اغلبهم حاليأ بامان العفو لانهم وضعوا السلاح وانضموا لركب السلطة بموجب اتفاق سلام جوبا .
ومما لاشك فيه أن قادة ومتمردي الجنجويد هم الوحيدون الذين يحوزون علي اكبر قدر من جفوة الشعب السوداني في مدنه وقراه التي كان ولازال اقل مصاب فيهم هو نصيب من هجروا عن منازلهم رغم فداحة ماترتب على ذلك لأن من نجا بروحه يعد الأقل مصابأ .
المقدمة اعلاه كانت ضرورية لهذه الرسالة التي اوجهها للواء خلا ابوعاقلة كيكل ،
وما اؤكده هنا انني لا اعرف المرسل إليه ، كما انه لايعرف الراسل ولم يحدث ان التقينا حتي تاريخه ، ولاتجمعني به أي آصرة من الأواصر التي تجعلنا نتبادل اي قدر من الود .
وبما إن انضمام كيكل للشعب وجيشه تائبا وقد وجد قدرأ من الاستحسان وقدرأ أكبرأ من الاستهجان ، فقد تسآلت في نفسي ياتري اي الفريقين اصوب ؟
وبعد طول تفكير رأيت ان اكتفي بارسال رسالتين الأولى : لابوعاقلة كيكل والثانية : للشعب السوداني الصابر صمودأ ورجاءٔ
الرسالة الأولى :
وهذه الرسالة أرسلها بعد ان سمعت كيكل وهو يبرر (اجرامه) مع الجنجويد وكيف انه كان يحمي بعضأ من مناطق شرق الجزيرة من اذي الجنجويد ولماذا فشل في حماية باقي مدن قرى الجزيرة ، فقلت في نفسي هل ياتري :
ءإجرامه ، ام إجرام جون قرنق كان اكبر ؟ ،
إجرامه أم إجرام الحركات المسلحة كان أكبر؟ ،
إجرامه أم إجرام الجماعات التي ساندت جون قرنق سياسيأ ولوجستيأ كان اكبر ؟،
إجرامه أم إجرام الجماعات المدنية التي ظلت تدعم الجنجويد منذ انطلاق (معجنته) على الشعب السوداني كان أكبر ؟ ، فوجدت ان كيكل بأوبته وانضمامه بقوة وشجاعة جنديأ بالصف الوطني إن لم يكن يتساوي مع جون قرنق وجبريل ابراهيم فهو أفضل من الجنجويد وحاضنتهم السياسية ، الذين استمرأوا مواصلة معاناة السودان ويدخلون يوميأ الى ناديهم المجرم ثلة جديدة من المدنيين دون اكتراث لإدانات المجتمع الدولي ولا للإحراج السياسي ولحواضنهم الاجتماعية والسياسية .
وبما إنك يا كيكل قد استفدت من الوجهة القانونية من العفو العام الذي اطلقه السيد رئيس مجلس السيادة ، فإنك تكون بذلك قد تحصنت من ملاحقة الدوله ، أما الحقوق الخاصة بكل فرد سوداني متضرر فانها ستظل تلاحق ضميرك دونما شك ، وبما ان الاضرار والاذي الذي تعرض لهما كل اهل السودان تتفاوت في حجمها وقوتها ، إلا أن الجامع المشترك بينها جميعأ هو الأثر المعنوي الدامغ المتجسد في الألم والاسى والحسرات البالغة مديات لايمكن قياسها ، ولايمكن ولاتجاوزها بالنسيان أو بالتناسبي .
الرسالة الثانية:
رغم ذلك الأسى والأسف فإن رد فعل جل السودانيين من داخل وخارج مسارح الاحداث هو ان ماحدث على المستوي الشخصي جعلهم ينكفؤون على انفسهم ويردون الأمر كله لله وصنفوا الأحداث كلها بأنها ابتلاء رباني لكل فرد ، فصبروا وتركوا الأمر لله واغلبنا نسي (أوتناسى) الاضرار المادية لما فقده أو لمن فقدهم ولصعوبات التهجير ، والاذي الجسدي والنفسي .
وما آمله بل اتوقع ان يكون في مخيلة كل سوداني أصيل هو ان يسعي لأن يكمل رحلته الي الله بعد تجاوز الضرر المادي ، بإكمالها الى تجاوز الضرر المعنوي الى العفو عمَن انحاز الي الشعب وقواته المسلحة ؟! وعلي راسهم ابوعاقله كيكل بالرغم من أنه وحشي الجنجويد ، وعرمان حركة جون قرنق !!.
وانا هنا أخاطب الشعب السوداني المؤمن بقضاء الله وقدره المحتسب المتوكل عليه ، مناجيأ سماحة وعفو واصالة الشعب المؤمن بان لايخرجوا من محراب الطاعات وذيادتها ، ورد الأمر لله والصبر بل والذهاب لله بخطوات اسرع ، وعن بصيرة ونية اتباع سنته (ص) المشرقة في التجاوز عن المعاناة والألم الخاص بلانفس الي الرجاء الى ماعند الله التي سيناولوها بإعلاء قيمة العفو كما جسدها رسولنا الاكرم صلوات الله وسلامه عليه وصحابته الكرام في حياتهم واتمثل لذلك بما نثروه من اعلى القيم الإنسانية عند فتح مكة ، فقد عفا (ص) عن كل اهل مكة الذين تسببت سوء معاملتهم في هجرة الرسول وصحابته الكرام ، وذلك حين اصدر قرارأ حوته عبارته (ص) الشهيرة :-(إذهبوا فأنتم الطلقاء) ، والتي امتثل لها كل اصحابه رضوان الله عليهم ، كما أنه بصفة خاص قد عفا عن عشر من الرجال والنساء كان (ص) قد اهدر دمهم لتفرد إجرامهم في حق الإسلام ورسوله منهم سيدنا عكرمة بن ابي جهل ، وعبدالله بن ابي السرح ، هبّار بن الأسود ،الحويرث بن نقيذ. ، سارة مولاة بني هاشم. الي جانب هند بنت عتبة بن ربيعة ومغنين رضوان الله عليهم اجمعين لتوبتهم واسلامهم قبل القدرة عليهم ، ووسط ذخم العفو الذي اشاع حالة من السلام الاجتماعي ، وحتى تقترب الصورة سأحاول ان اجسد صور ناصعة جديرة بالتخصيص منها :-
أولا :- في القصة المشهورة التي لايكاد ان يخلو منها اي من كتب السيرة والتاريخ وهي قصة هند بنت عتبة زوج ابي سفيان بن حرب ، قصتها في معركة احد التي خسرها المسلمون خسارة مؤلمة ، والتي كان دور هند بنت عتبة واخريات من نساء كفار قريش هو جذع انوف شهداء المعركة وصلم آذانهم ، وعندما بلغت هند جثة سيدنا حمزة (ر) وكان قد مثل بجثته وجدع أنفه وصلم أذناه وبقرت بطنه فاخرخت هند كبدة سيدنا حمزة (ر) ولاكته !!! .
ولما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم المنظر ، شهق ثم بكى بكاء وصفه بن اسحاق بإنه من المواقف القليلة التي بكى فيها صلى الله عليه وسلم ، وقال بن هشام ان صلى الله عليه وسلم قال :- لن أصاب بمثلك أبدا ، وما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من هذا ، ثم قال : جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السموات السبع : حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله ، وأسد رسوله .
وقال صلى الله عليه وسلم : «رحمة الله عليك ، فإنك كنت كما علمتك ، فعولا للخيرات ، وصولا للرحم ، لولا أن تحزن صفية - وفي لفظ : نساؤنا ، وفي لفظ : لولا حزن من بعدي عليك ، ووعمل يكون سنة من بعدي - لتركته ، حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير ، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل ، قالوا : والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب ، ولكنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن المثلة.
هذا كان عن الجرم الذي ارتكبته هند بنت عتبة في حق المسلمين عامة وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة وما احدثته في روعه من ألم وحسره على فقده لسينا حمزه (ر) عمه وصديقه واخيه في الرضاعة وواحد من احب الناس إليه ، ولولا ان الله تعالى قد سرى عليه لطال أمد حزنه.
وقد كانت هند من أشدِّ الناس حقدًا على المسلمين، وكان هذا الحقد كبيرًا من أول أيام الإسلام ، ولكنه زاد وتضاعف بشده بعد غزوة بدر حيث قُتل في ذلك اليوم أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وابنها حنظلة بن أبي سفيان، وأخوها الوليد بن عتبة ، وهم من أقرب الأقربين إليها ، وهم جميعًا من سادة قريش؛ فأورث ذلك في قلبها كراهية لا يماثلها فيها أحد، وظلت على هذا العداء منذ بدر وحتى فتح مكة، فكانت تُحمِّس الجيش القرشيَّ قدر ما تستطيع في معاركهم ضد المسلمين ، وممنا يذكر في هذا الشأن أنه لما فرَّ جيش الكفار من أمام المسلمين في معركة احد كانت تقذف في وجوههم التراب، وتدفعهم دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفرَّ كما فرَّ الرجال ، وقد استمرَّت في عدائها السافر ضد الإسلام حتى قُبَيْلَ فتح مكة، حتى إنها رفضت ما طلبه زوجها من أهل مكة أن يدخلوا إلى بُيُوتهم ، طلبًا لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها أبي سفيان عندما أَصَرَّ على الخضوع للرسول (ص) ودفعتهم دفعًا إلى القتال!! ما يؤكد طول تاريخ شراسة هذه المرأة مع المسلمين .
ولنا أن نستشعر مدى الغضب الذي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابتة الكرام (ر) ناحية هند أثر ذلك الجرح العميق الذي سببته قلوبهم .
ونحكي السيرة انه عند فتح مكة لما رأت هند قدوم المسلمين إليها بعز أعزهم الله وهم يكسرون به الأصنام حول الكعبة وهم ميرددون قول الله تعالى:- { جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا }[سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٨١] تذكرت عند ما كان من ضعفهم أيام الاسلام الأولى ، وكيف أُجبر المسلمون على الهروب من مكة ضعافأ أذلاء ، وكيف أن هذا كله استحال إلى ماهو عكسه الآن تمامأ ، وترددت هذه الآية في آذانها من المسلمين وهم يطوفون حول الكعبة يطهرونها من كل مظاهر الشرك والوثنية منها، فجعلت تضرب صنمًا لها في بيتها بالقَدُوم حتى فلذته فلذة فلذة، وتقول: كنا معك في غرور، كنا معك في غرور.
وبعد هذه الرحلة الطويلة للصدِّ عن سبيل الله ، إلا انه بعد ان فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة ، وأقبل أهلُها من كلِّ مكان يبايعون على الإسلام ،جاءت هند بنت عتبة ، وهي منتقبة متنكِّرة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم، تريد أن تبايع كما يبايع الناس!! وكانت بيعة النساء على: أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصينه صلى الله عليه وسلم في معروف.
لذا فإنه كان من البديهي أن لا يفترض في قدوم هند بنت عتبة للبيعة إلا انها محاولة منها للهروب من حكمٍ بالقتل لا محالة سيصدر في حقها !! ولكن الموقف كان شديد البُعد عن توقعات الناس ، فماذا فعل رسول الله ؟ ، لما بدأت النساء تبايع قال صلى الله عليه وسلم لهن: «بَايِعْنَنِي عَلَى أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا».فقالت هند وهي منتقبة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفها: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال. أي : أن هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا بيعة واحدة ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى اعتراضها، وأكمل: «وَلاَ تَسْرِقْنَ». ، فوقفت هند بشجاعةٍ وقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيّ، فهل عليَّ من حرجٍ إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ ، فقال صلى الله عليه وسلم: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ» لما روى البخاري 3825 ومسلم 1714 وغيرهما.
بعد أن انتبه صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه التي تتكلم هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَهُنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ»؟! قالت: نعم ، هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف، عفا الله عنك ، فكانت لحظة فاصلة في حياة هند بنت عتبة –رضي الله عنها-!
تُرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تذكر تاريخها الطويل المفجع ، وعندما يتذكر حمزة بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، وما حدث له على يدها..؟! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيمه العفو والصفح، فلم يُعَلِّقْ بكلمةٍ واحدة على كل ذكرياته المفجعة، بل تنازل عن كل الحقوق، وقَبِل إسلامها ببساطة، وأكمل البيعة مع النساء وكأنه لم يتأثر أبدًا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَزْنِينَ»واستمرت هند في اعتراضاتها فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟! فلم يتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أكمل: «وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلاَدَكُنَّ».فقالت هند: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا، هل تركت لنا ولدًا إلا قتلته يوم بدر؟! أنت قتلت آباءهم يوم بدر ، وتوصينا الآن بأولادهم !! فلم ينفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: ولماذا قاتلناهم في بدر؟! ولم يقل
أفلم يكن ذلك لأن المشركين -ومنهم أبوك وعمك وأخوك وابنك- حاربونا ليل نهار ليفتنونا عن ديننا ، وقهرونا وعذبونا، وصادروا ديارنا وأموالنا؟! ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك، وإنما كان ردُّ فعله عجيبًا!! لقد تبَسَّم صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا، وأخذ الموضوع بشيء من البساطة ، وقدَّر موقف هند بنت عتبة –رضي الله عنها-، ومدى صعوبة الإسلام عليها.. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ» ، فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح.
فقال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ».
فقالت هند: والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف ، وبعدما بايعت هند قالت:«يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتنفعني رحمك الله يا محمّد إني امرأة مؤمنة بالله مصدّقة برسوله» حينما جاءته مسلمة تائبة حيث أسلمت يوم فتح مكة بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة.
وحسن إسلام هند بنت عتبة رضي الله عنها، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتُحَمِّسَهَا لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمِّسَهُمْ لحرب الكفار ،فشهدت هند معركة اليرموك ضمن جيش المسلمين ، وكانت تحرض المسلمين على قتال الروم مع زوجها أبي سفيان وهي تقول: “عضدوا الغلفان بسيوفكم”.
وقد أصبحت هند بنت عتبة رضي الله عنها إضافة قوية للأمة الإسلامية ، وكانت البداية موقفًا بديعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم وما أكثر الأعداء الذين تحوَّلُوا إلى أخلص الأصدقاء بعد التعرف على الإسلام ،
كما ساهمت في إرساء بعض الأحكام الإسلامية الخاصة بلأسرة ، منها أن نفقة الزوجة لا تسقط بغناها ولا بعملها ، ولو منعها إياها واستطاعت الوصول إليها دون علمه فلها أخذ مقدار نفقتها بالمعروف،
ولم تكن مواقف سيدتنا هند (ر) تلك إلا لانها كانت قد تربت على العزة والكرم والمروءة ، ومما روت كتب السيرة عنها، أن السيدة زينب رضى الله عنها ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: لما قدم زوجها أبوالعاص مكة، قال لي: تجهزي فالحقي بأبيك ،
فخرجت أتجهز، فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد ، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقلت لها: ما أردت ذلك ، فقالت: أيْ بنت عم ، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك ، فإن أردت سلعة بعتكها ، أو قرضًا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ، قالت: فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها، وقلت: ما أريد ذلك.
والشاهد ان ذلك أظهر من هند بنت عتبة مروءتها مع زينب رضى الله عنها رغم بغضها الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، فلم تكن أسلمت بعد ، لكن لم يمنعها ذلك من إعانة بنت الد اعدائها وقضاء حوائجها، وهذا يعطي درساً أن الفطرة السليمة تدعو إلى الخير والفضيلة وتقود بدورها إلى معرفة الإسلام على حقيقته.
ثانيأ :- موقف أبودسمه وحشي بن حرب قاتل سيدنا حمزة بن عبدالمطلب (ر) ، الرجل الذي اوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وجعأ دام طويلا لم يستكن الا بعد ان سري عنه الله تعالى ، وقد بلغ الحزن والضيق من الرسول صلى الله عليه وسلم من وحشي الذي كان
يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قال (ص) للصحابة :- قولوا لوحشي ان لا يصلي خلفي لا تحتمل عيني رؤيته " هذا رسول الله فكيف بمن دونه في العفو اذا عفا والسماح اذا سامح ، فالمؤكد ان كل ذلك اذا تم فإن المرارة تظل باقية في النفس الى ان يريحها الله بفضله .
وكان وحشي قد مكث بمكة بعد عتقه حتى فتحها المسلمون، ففر إلى الطائف إلى أن خرج وفد منها للقاء النبي محمد، يقول: «فلما خرج وفد الطائف ليسلموا ، ذكر ان الأرض ضاقت عليَ بما رحبت وقررت ان ألتحق بالشام أو اليمن أو بعض البلاد ، وبينما هو في همه ذلك إذ قال رجل: ويحك! إنه (اي الرسول صلى الله عليه وسلم) والله ما يقتل أحدًا من الناس دخل في دينه.
فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله المدينة، فلم يرعه إلا وأنا قائم على رأسه ،أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: وحشي؟ قلت: نعم، قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة. فقلت ، إنَّ حمزةَ قتَل طُعَيمةَ بنَ عَديِّ بنِ الخِيارِ ببَدْرٍ قال : فقال لي مولايَ جُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ : إنْ قتَلْتَ حمزةَ بعمِّي فأنتَ حُرٌّ قال : فلمَّا أنْ خرَج النَّاسُ عامَ عَيْنَيْنِ - قال : وعَيْنَيْنِ جَبلٌ تحتَ أُحُدٍ بَيْنَه وبَيْنَ وادٍ - قال : فخرَجْتُ مع النَّاسِ إلى القتالِ فلمَّا اصطفُّوا للقتالِ خرَج سِباعٌ أبو نِيَارٍ قال : فخرَج إليه حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ فقال : يا سباعُ يا ابنَ أمِّ أنمارٍ يا ابنَ مُقطِّعةِ البُظورِ تُحادُّ اللهَ ورسولَه ؟ قال : ثمَّ شدَّ عليه فكان كأمسِ الذَّاهبِ قال : وانكَمَنْتُ لِحمزةَ حتَّى مرَّ علَيَّ فلمَّا أنْ دنا منِّي رمَيْتُه بحَرْبتي فأضَعُها في ثُنَّتِه حتَّى خرَجَتْ مِن بَيْنِ ورِكَيْهِ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( أمَا تستطيعُ أنْ تُغيِّبَ عنِّي وجهَك ؟ ) .
وبعدها عاش وحشي في مكة دون ان يجلس مجلسأ ولايتلاقي فيه معه (ص) في موضع حتى توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
وفي رواية ثانية لذات القصة عن ابن عباس قال:- «بعث رسول الله إلى وحشي بن حرب قاتل عمه حمزة يدعوه للإسلام فأرسل وحشي قائلًا :-يا محمد كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما ويضاعف الله له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة ؟ فأنزل الله عز وجل على نبيه قوله تعالى: «إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».
وفي المقابل تمامأ يحكي وحشي انه في اول عهد سيدنا ابوبكر (ر) حصلت الردة فخرَجْتُ لما خرَج مُسيلِمةُ الكذَّابُ على ابوبكر (ر) قال : قُلْتُ : لَأخرُجَنَّ إلى مُسيلِمةَ لَعَلِّي أقتُلُه فأُكافِئَ به حمزةَ قال : فخرَجْتُ مع النَّاسِ فكان مِن أمرِهم ما كان قال : وإذا رُجَيْلٌ قائمٌ في ثُلمةِ جِدارٍ كأنَّه جملٌ أورَقُ ما نرى رأسَه قال : فأرميه بحَرْبتي فأضَعُها بَيْنَ ثَديَيْهِ حتَّى خرَجَتْ مِن بَيْنِ كتِفَيْهِ قال : ودبَّ رجُلٌ مِن الأنصارِ فضرَبه بالسَّيفِ على هامَتِه قال عبدُ اللهِ بنُ الفضلِ : وأخبَرني سُلَيمانُ بنُ يَسارٍ أنَّه سمِع عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يقولُ : قالت جاريةٌ على ظهرِ البيتِ : إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ (مسيلمة) قتَله العبدُ الأسودُ .
وروي عن وحشي رضي الله عنه انه قال:- (قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس )
نخلص من هاتين الروايتين ان وحشي الذي فجع الرسول صلى الله عليه وصحابته الكرام قد تجاوز عنه في الحق العام وقبل اسلامه وعفا عنه حيث لم يصر على ان يقتص منه ، بل اكتفى بان لا يشاهده ، وإن وحشي (ر ) قد كفر عن ذنبه الذي ارتكبه قبل ان يسلم مقابل نيل حريته بالعتق وكافئ فعلته بقتل اكبر اعداء الاسلام في حروب الردة .
ثالثا:عندما ارسل الرسول (ص) رسائل للملوك والأمراء عارضاً عليهم الإسلام ، في القرن السادس الهجري ، كان من بين هؤلاء ثمامة بن أثال ملك وسيد بنوحنيفة وكان رجلاً قيلاً -أي إذا قال نفذ - كما وله الكلمة على اليمامة عامه ، ، لما وصلته رسلة الرسول (ص) لم يحسن إستقبالها وأشاح بوجهه تكبراً ، وتوعد بأنه سيقتل النبي (ص) وينهي دعوته ، وبدأ بقتل أي رجل مسلم ، ثم بدأ يترصد الرسول (ص) ، وأخذ يتربص باحوال الرسول (ص) ،وبعد سنوات قرر ثمامة أن يعتمر ، وكان الرسول (ص) كان قد عين كتيبة (دورية) تدور حول المدينة لحمايتها ، وفي إحدي الليالي سمع أفراد الحراسة شخصاً على ناقة وهو يدخل المدينة ويردد كلمات كفر في تلبية العمرة ، فقبضوا عليه وربطوه في سارية المسجد، وفي الصباح أخبر الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بانهم قد اتوا بأسير ، وعرضوه على الرسول (ص) فاخبرهم بانه ثمامة بن أثال ، ولم يتحدث معه ، وأوصى الصحابة أن يحسنوا إساره وتكريمه أشد الكرم وانزاله منزلته ، وتركه مكتوفاً ليومين واتاه بعد ذلك ثم ساله (ص) : ماذا عندك ؟ فرد : نعم ، إن تقتل تقتل ذا دم - يقصد أنه قتل مجموعة من المسلمين ، وقيل يقصد ان دمه غالٍ اي ستقتص له قبيلته - ، وإن كنت تطلب الفداء فانت تعلم من أنا ، أطلب تجد ، وإن تعفو تعفو عن شاكر -اي يعرف الفضل- فتركه ، واتاه في اليوم الثاني فردد له ثمامه بذات المقال ، فأتاه في اليوم الثالث فردد عليه بذات المقال ، فأجاب بذات الإجابة ، فأمر (ص) بأن يفك وثاقه وتٌركه يعود لموطنه ، فلم خرج من المدية وجد نخيلاً وعين ماء فاغتسل ورجع للرسول (ص) وهو جالس في المسجد وسط أصحابه فقال للرسول (ص) : يا رسول الله يعلم الله كنت أبغض الناس إلي قلبي فاصبحت أحب الناس ، وكان دينك أبغض الأديان والآن أحب الأديان ألى قلبي ، فأحتضنه الرسول (ص) وكبر الصحابة ،، فطلب من الرسول (ص)أن ينصحه فوجهه الرسول (ص) لأداء العمرة بالصيغة الإسلامية ، فاستأذن رسوالله (ص) وقال : سترى صنيعي برجال مكه ، سأري كفار مكة يقر عينك ، ودخل الكعبة ملبياً بصوت عال فاستهجن من بالكعبة كيف يجرؤ مسلم دخول الكعبة بتلك الهيئة فأرادوا الفتك به ، ولكن لما عرفه كبراء قريش أمروا شبابهم أن توقفوا فهذا ثمامة الذي يُصدر لنا الحنطة والطعام ، فأخبرهم ثمامة بأنه قد أسلم ، وأعلن لهم أنه لن تصل إليهم من اليمامة حبة حنطة ما لم يسلموا أو يامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالفعل منعهم حتي جاعوا ، فلجأوا للرسول صلى الله عليه وسلم مستنجدين ، فارسل لثمامة طالبأ السماح بالميرة لاهل مكة .
وقد حسن اسلام ثمامة (ر) وحارب جيش المسلمين ضد المرتد مسيلمة الكذاب ، الذي كان من بني حنيفة قومه .
رابعأ : وفي أمثال مواقف العفو تلك فقد وجدنا ان سيدنا عمر بن الخطاب (ر) قد أذن للمرتدين الذين عادوا للإسلام وحسن اسلامهم عفا سيدا بلالتحاق بجيش المثنى بن حارثة الذي خاض معركة البويب الشرسة التي خاضها المسلمون وجيوش الفرس لمنع المسلمين من دخول الحيرة وهي من اكبر العواصم الفارسية آنذاك وقد انتصر فيها المسلمين .
خامسأ :- المتمرد ياسر عرمان الذي ظل يقاتل جيش بلاده منذ تمرده في أو حوالي 1985 حتى تاريخه بل وعمل على تفكيكه ، وجدناه قد استفادة من العفو العام والعفو الخاص حيث تم ادماجه في المجتمع ومارس حياته متمتعأ بكافة حقوقه كمواطن في وتقلد المناصب الدستورية، التشريعية والسياسية ، ورغم عفو السودانين عنه إلا انه ابي يصالحهم ، فسقط في امتحان نجح فيه اللواء خلاء كيكل ، فأيهما اولي بالتجاوز ؟ .
خلاصة الرسالة :-
من كل ما اوردنا نخلص الي المرجو من الرسالة الأولى ، هو ان ابوعاقلة كيكل قد استوفى شرط الأوبة بلانضمام الى معسكر الوطن ، وقد حسنت اوبته وانتمائه للوطن بالتزامه القتال الى جانب جيش بلاده ، وقد تأكد في اكثر من معركة لاسيما في معركة أم القرى بالجزيرة حتي كتابة هذا المقال .
أما الرسالة الثانية فهي الموجهة لعموم السودانين والتى نلخصها بالتذكير بأن الرسول (ص) قد استن سنة العفو عمن اجرم مهما تسبب بجرمه في فقدان وآلام مهما بلغت ، ومهما تركت في النفوس من حنق وحسرة ، وقد أرسى كذلك فضلأ عما أوردنا من سيرته ومن سيرة اصحابه قاعدة جاءت في حديثه صلى الله عليه وسلم:- (النائب من الذنب كمن لاذنب له) أي تمحى ذنوبهم ، ما يوجب ان تنسى جرائمهم ونتائجها ، لأن الله تعالى اذا تاب الشخص وعمل صالحأ بدل سيئاته حسنات وبالتالى فالواضح ان ذلك يعتبر من كمائن الفطرة القويمة ، والتى تجعل من امثال وحشي صحابيا جليلأ ومن أمثال أبو عاقلة كيكل ابنأ من ابناء الوطن الذين تنكبوا الطريق ثم تغلبت نوازع الخير فيهم وهزمت نوازع الشيطان مصداقأ لقوله تعالي { وَمَن یَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن یُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِهِۦۖ } [سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٩٧] .
اللهم أرنا الحق حقأ وثبتنا عليه .
تعليقات
إرسال تعليق